فصل: تفسير الآية رقم (86):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (61- 66):

{فَلَمَّا جَاءَ آَلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)}
{مُنكِرُونَ} أي تنكركم نفسي وتنفر منكم، فأخاف أن تطرقوني بشرّ، بدليل قوله: {بَلْ جئناك بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ} أي ما جئناك بما تنكرنا لأجله، بل جئناك بما فيه فرحك وسرورك وتشفيك من عدوّك، وهو العذاب الذي كنت تتوعدهم بنزوله، فيمترون فيه ويكذبونك {بالحق} باليقين من عذابهم {وِإِنَّا لصادقون} في الإخبار بنزوله بهم. وقرئ: {فأسر} بقطع الهمزة ووصلها، من أسرى وسرى. وروى صاحب الإقليد: فسر، من السير والقطع في آخر الليل. قال:
افْتَحِى الْبَابَ وانْظُرِي في النُّجُوم ** كَمْ عَلَيْنَا من قِطعِ لَيْلٍ بَهِيم

وقيل: هو بعد ما يمضي شيء صالح من الليل.
فإن قلت: ما معنى أمره باتباع أدبارهم ونهيهم عن الالتفات؟ قلت قد بعث الله الهلاك على قومه، ونجاه وأهله إجابة لدعوته عليهم، وخرج مهاجراً فلم يكن له بدّ من الاجتهاد في شكر الله وإدامة ذكره وتفريغ باله لذلك، فأمر بأن يقدّمهم لئلا يشتغل بمن خلفه قلبه، وليكون مطلعاً عليهم وعلى أحوالهم، فلا تفرط منهم التفاتة احتشاماً منه ولا غيرها من الهفوات في تلك الحال المهولة المحذورة، ولئلا يتخلف منهم أحد لغرض له فيصيبه العذاب، وليكون مسيره مسير الهارب الذي يقدّم سربه ويفوت به، ونهوا عن الالتفات لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب فيرقوا لهم، وليوطنوا نفوسهم على المهاجرة ويطيبوها عن مساكنهم، ويمضوا قدماً غير ملتفتين إلى ما وراءهم كالذي يتحسر على مفارقة وطنه فلا يزال يلوي إليه أخادعه، كما قال:
تَلَفَّتُّ نَحْوَ حَييِّ حتى وَجَدتُنِي ** وَجِعْتُ مِنَ الإِصْغَاءِ لِيتاً وَأَخْدَعَا

أو جعل النهي عن الالتفات كناية عن مواصلة السير وترك التواني والتوقف، لأنّ من يلتفت لابد له في ذلك من أدنى وقفة {حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} قيل هو مصر وعدي {وامضوا} الى {حيث} تعديته الى الظرف المبهم لأن {حَيْثُ} مبهم في الأمكنة، وكذلك الضمير في {تَأْمُرُونَ} وعدي {قَضَيْنَا} بإلى لأنه ضمن معنى: أوحينا، كأنه قيل: وأوحينا إليه مقضياً مبتوتاً. وفسر {ذَلِكَ الأمر} بقوله {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ} وفي إبهامه وتفسيره تفخيم للأمر وتعظيم له.
وقرأ الأعمش: (إن)، بالكسر على الاستئناف كأن قائلاً قال: أخبرنا عن ذلك الأمر، فقال: إنّ دابر هؤلاء. وفي قراءة ابن مسعود: {وقلنا إنّ دابر هؤلاء}. ودابرهم: آخرهم، يعني: يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد.

.تفسير الآيات (67- 77):

{وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)}
{أَهْلِ المدينة} أهل سدوم التي ضرب بقاضيها المثل في الجور، مستبشرين بالملائكة {فلا تَفْضَحُونِ} بفضيحة ضيفي، لأنّ من أسيء إلى ضيفه أو جاره فقد أسيء إليه، كما أن من أُكرم من يتصل به فقد أُكرم {وَلاَ تُخْزُونِ} ولا تذلونِ بإذلال ضيفي، من الخزي وهو الهوان. أو ولا تشوّروا بي، من الخزاية وهي الحياء {عَنِ العالمين} عن أن تجير منهم أحداً، أو تدفع عنهم، أو تمنع بيننا وبينهم، فإنهم كانوا يتعرّضون لكل أحد، وكان يقوم صلى الله عليه وسلم بالنهي عن المنكر، والحجر بينهم وبين المتعرّض له، فأوعدوه وقالوا: لئن لم تنته يا لوط لتكوننّ من المخرجين. وقيل: عن ضيافة الناس وإنزالهم، وكانوا نهوه أن يضيف أحداً قط {هؤلاءآء بَنَاتِى} إشارة إلى النساء؛ لأنّ كل أمّة أولاد نبيها رجالهم بنوه ونساؤهم بناته، فكأنه قال لهم: هؤلاء بناتي فانكحوهنّ، وخلوا بنيّ فلا تتعرضوا لهم {إِن كُنتُمْ فاعلين} شك في قبولهم لقوله، كأنه قال: إن فعلتم ما أقول لكم وما أظنكم تفعلون. وقيل: إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فيما أحل الله دون ما حرّم {لَعَمْرُكَ} على إرادة القول، أي قالت الملائكة للوط عليه السلام: لعمرك {إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ} أي غوايتهم التي أذهبت عقولهم وتمييزهم بين الخطأ الذي هم عليه وبين الصواب الذي تشير به عليهم، من ترك البنين إلى البنات {يَعْمَهُونَ} يتحيرون، فكيف يقبلون قولك ويصغون إلى نصيحتك، وقيل: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه أقسم بحياته وما أقسم بحياة أحد قط كرامة له، والعمر والعمر واحد، إلا أنهم خصوا القسم بالمفتوح لإيثار الأخف فيه، وذلك لأن الحلف كثير الدور على ألسنتهم، ولذلك حذفوا الخبر، وتقديره: لعمرك مما أقسم به، كما حذفوا الفعل في قولك: بالله. وقرئ: {في سكرهم وفي سكراتهم} {الصيحة} صيحة جبريل عليه السلام {مُشْرِقِينَ} داخلين في الشروق وهو بزوع الشمس {مّن سِجّيلٍ} قيل: من طين، عليه كتاب من السجل، ودليله قوله تعالى: {حِجَارَةً مّن طِينٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ} [الذاريات: 33- 34] أي معلمة بكتاب {لِلْمُتَوَسّمِينَ} للمتفرّسين المتأملين. وحقيقة المتوسمين النظار المتثبتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة سمة الشيء. يقال: توسمت في فلان كذا، أي عرفت وسمه فيه. والضمير في {عاليها سَافِلَهَا} لقرى قوم لوط {وَإِنَّهَا} وإنّ هذه القرى يعني آثارها {لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ} ثابت يسلكه الناس لم يندرس بعد، وهم يبصرون تلك الآثار، وهو تنبيه لقريش كقوله: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ} [الصافات: 137].

.تفسير الآيات (78- 79):

{وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)}
{أصحاب الأيكة} قوم شعيب {وَإِنَّهُمَا} يعني قرى قوم لوط والأيكة. وقيل: الضمير للأيكة ومدين، لأنّ شعيباً كان مبعوثاً إليهما فلما ذكر الأيكة دل بذكرها على مدين فجاء بضميرهما {لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} لبطريق واضح، والإمام اسم لما يؤتم به، فسمي به الطريق ومطمر البناء واللوح الذي يكتب فيه، لأنها مما يؤتم به.

.تفسير الآيات (80- 84):

{وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآَتَيْنَاهُمْ آَيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)}
{أصحاب الحجر} ثمود، والحجر واديهم، وهو بين المدينة والشأم {المرسلين} يعني بتكذيبهم صالحاً، لأنّ من كذب واحداً منهم فكأنما كذبهم جميعاً، أو أراد صالحاً ومن معه من المؤمنين كما قيل: الخبيبون في ابن الزبير وأصحابه.
وعن جابر: (مررنا مع النبي صلى الله عليه وسلم على الحجر فقال لنا: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين، حذراً أن يصيبكم مثل ما أصاب هؤلاء» ثم زجر النبي صلى الله عليه وسلم راحلته فأسرع حتى خلفها) {ءامِنِينَ} لوثاقة البيوت واستحكامها من أن تتهدم ويتداعى بنيانها، ومن نقب اللصوص ومن الأعداء وحوادث الدهر. أو آمنين من عذاب الله يحسبون أنّ الجبال تحميهم منه {مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} من بناء البيوت الوثيقة والأموال والعدد.

.تفسير الآية رقم (85):

{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)}
{إِلاَّ بالحق} إلا خلقاً ملتبساً بالحق والحكمة، لا باطلا وعبثاً. أو بسبب العدل والإنصاف يوم الجزاء على الأعمال {وَإِنَّ الساعة لآتِيَةٌ} وإنّ الله ينتقم لك فيها من أعدائك، ويجازيك وإياهم على حسناتك وسيآتهم؛ فإنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا لذلك {فاصفح} فأعرض عنهم واحتمل ما تلقى منهم إعراضاً جميلاً بحلم وإغضاء. وقيل: هو منسوخ بآية السيف. ويجوز أن يراد به المخالقة فلا يكون منسوخاً.

.تفسير الآية رقم (86):

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)}
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخلاق} الذي خلقك وخلقهم، وهو {العليم} بحالك وحالهم، فلا يخفى عليه ما يجري بينكم وهو يحكم بينكم. أو إن ربك هو الذي خلقكم وعلم ما هو الأصلح لكم، وقد علم أنَّ الصفح اليوم أصلح إلى أن يكون السيف أصلح. وفي مصحف أُبيّ وعثمان: إن ربك هو الخالق وهو يصلح للقليل والكثير، والخلاق للكثير لا غير، كقولك: قطع الثياب. وقطع الثوب والثياب.

.تفسير الآية رقم (87):

{وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ (87)}
{سَبْعاً} سبع آيات وهي الفاتحة. أو سبع سور وهي الطوال، واختلف في السابعة فقيل: الأنفال وبراءة، لأنهما في حكم سورة واحدة، ولذلك لم يفصل بينهما بآية التسمية.
وقيل سورة يونس. وقيل: هي آل حم، أو سبع صحائف وهي الأسباع. و{المثاني} من التثنية وهي التكرير؛ لأن الفاتحة مما تكرر قراءتها في الصلاة وغيرها، أو من الثناء لاشتمالها على ما هو ثناء على الله، الواحدة مثناة أو مثنية صفة للآية. وأمّا السور أو الأسباع فلما وقع فيها من تكرير القصص والمواعظ والوعد والوعيد وغير ذلك، ولما فيها من الثناء، كأنها تثني على الله تعالى بأفعاله العظمى وصفاته الحسنى. و (من) إما للبيان أو للتبعيض إذا أردت بالسبع الفاتحة أو الطوال، وللبيان إذا أردت الأسباع. ويجوز أن يكون كتب الله كلها مثاني، لأنها تثني عليه، ولما فيها من المواعظ المكررة، ويكون القرآن بعضها، فإن قلت: كيف صح عطف القرآن العظيم على السبع، وهل هو إلا عطف الشيء على نفسه؟ قلت: إذا عنى بالسبع الفاتحة أو الطوال، فما وراءهنّ ينطلق عليه اسم القرآن، لأنه اسم يقع على البعض كما يقع على الكل. ألا ترى إلى قوله: {بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هذا القرءان} يعني سورة يوسف: وإذا عنيت الأسباع فالمعنى: ولقد آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن العظيم، أي: الجامع لهذين النعتين، وهو الثناء أو التثنية والعظم.

.تفسير الآيات (88- 89):

{لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)}
أي: لا تطمح ببصرك طموح راغب فيه متمنّ له {إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مّنْهُمْ} أصنافاً من الكفار.
فإن قلت: كيف وصل هذا بما قبله؟ قلت: يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: قد أوتيت النعمة العظمى التي كل نعمة وإن عظمت فهي إليها حقيرة ضئيلة، وهي القرآن العظيم؛ فعليك أن تستغني به، ولا تمدن عينيك إلى متاع الدنيا. ومنه الحديث: «ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن»، وحديث أبي بكر: «من أوتي القرآن فرأى أن أحداً أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي، فقد صغر عظيماً وعظم صغيراً» وقيل: وافت من بصرى وأذرعات: سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير، فيها أنواع البز والطيب والجوهر وسائر الأمتعة، فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوّينا بها، ولأنفقناها في سبيل الله، فقال لهم الله عز وعلا: لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أي لا تتمنّ أموالهم ولا تحزن عليهم أنهم لم يؤمنوا فيتقوّى بمكانهم الإسلام وينتعش بهم المؤمنون، وتواضع لمن معك من فقراء المؤمنين وضعفائهم، وطب نفساً عن إيمان الأغنياء والأقوياء {وَقُلْ} لهم {إِنّى أَنَا النذير المبين} أنذركم ببيان وبرهان أنّ عذاب الله نازل بكم.

.تفسير الآيات (90- 91):

{كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ (91)}
فإن قلت: بم تعلق قوله: {كَمَآ أَنْزَلْنَا}؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما، أن يتعلق بقوله: {وَلَقَدْ ءاتيناك} [الحجر: 87] أي أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب وهم المقتسمون {الذين جَعَلُواْ القرءان عِضِينَ} حيث قالوا بعنادهم وعدوانهم بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل، وبعضه باطل مخالف لهما، فاقتسموه إلى حق وباطل، وعضوه. وقيل: كانوا يستهزؤن به فيقول بعضهم: سورة البقرة لي، ويقول الآخر: سورة آل عمران لي، ويجوز أن يراد بالقرآن: ما يقرؤنه من كتبهم، وقد اقتسموه بتحريفهم، وبأنّ اليهود أقرّت ببعض التوراة وكذبت ببعض، والنصارى أقرت ببعض الإنجيل وكذبت ببعض، وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن صنيع قومه بالقرآن وتكذيبهم، وقولهم سحر وشعر وأساطير، بأن غيرهم من الكفرة فعلوا بغيره من الكتب نحو فعلهم. والثاني أن يتعلق بقوله: {وَقُلْ إِنّى أَنَا النذير المبين} [الحجر: 89] أي: وأنذر قريشاً مثل ما أنزلنا من العذاب على المقتسمين، يعني اليهود، وهو ما جرى على قريظة والنضير، جعل المتوقع بمنزلة الواقع، وهو من الإعجاز؛ لأنه إخبار بما سيكون وقد كان. ويجوز أن يكون الذين جعلوا القرآن عضين منصوباً بالنذير، أي: أنذر المعضين الذين يجزؤن القرآن إلى سحر وشعر وأساطير، مثل ما أنزلنا على المقتسمين وهم الاثنا عشر الذين اقتسموا مداخل مكة أيام الموسم، فقعدوا في كل مدخل متفرّقين لينفروا الناس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول بعضهم: لا تغتروا بالخارج منا فإنه ساحر. ويقول الآخر: كذاب، والآخر: شاعر، فأهلكهم الله يوم بدر وقبله بآفات، كالوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب وغيرهم، أو مثل ما أنزلنا على الرهط الذين تقاسموا على أن يبيتوا صالحاً عليه السلام، والاقتسام بمعنى التقاسم.
فإن قلت: إذا علقت قوله: {كَمَآ أَنْزَلْنَا} بقوله: {وَلَقَدْ ءاتيناك} [الحجر: 87] فما معنى توسط {لاَ تَمُدَّنَّ} [الحجر: 88] إلى آخره بينهما؟ قلت: لما كان ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن تكذيبهم وعداوتهم، اعترض بما هو مدد لمعنى التسلية من النهي عن الالتفات إلى دنياهم والتأسف على كفرهم، ومن الأمر بأن يقبل بمجامعه على المؤمنين {عِضِينَ} أجزاء، جمع عضة، وأصلها عضوة فعلة من عضى الشاة إذا جعلها أعضاء. قال رؤبة:
وَلَيْسَ دينُ اللَّهِ بِالْمَعْضِيِّ

وقيل: هي فعلة، من عضهته إذا بهته.
وعن عكرمة: العضة السحر، بلغة قريش، يقولون للساحر عاضهة.
ولعن النبي صلى الله عليه وسلم العاضهة والمستعضهة، نقصانها على الأوّل واو، وعلى الثاني هاء.